لماذا يحتاج الفرد منا أن يكتب ديباجة في الحب والانتماء ومعاني الولاء كمقدمة كلما أراد أن ينتقد أمرا ما في الوطن؟!
وعلى الرغم من ذلك، قد لا يسلم من نعته بالخائن والعدو وصاحب الأجندات الخفية والمعلنة وزائر السفارات، أو من المدرسة المحافظة المتشددة أو المدرسة الليبرالية... إلخ!
كل مدرسة فكرية أصبح لها مخزون من الأوصاف الجاهزة التي تحارب بها أصحاب المدارس الأخرى، حقا إنه إبداع لغوي نتباهى به بين الأمم!، بل إن كل واحدة منها تسمح لنفسها ما ترفضه من غيرها!
أما البقية التي ليس لها في "التور أو الطحين"، بمعنى أنها ترى نفسها لا تنتمي سوى إلى الوطن أولا وأخيرا، فيجب أن يخفضوا رؤوسهم، كي لا تصيبهم شظية طائشة من هذه الفرقة أو تلك!
وكما أن هنالك من بزعمه يمتلك مفاتيح الجنة، هنالك أيضا من نصّب نفسه حامي الحمى، ومالك صكوك الوطنية!
ما إن يطرح شخص قضية تهم المجتمع بالأخص الوطن والمعيشة من أي زاوية كانت، حتى تجد من يتابع ليفهم وليحلل، ثم يحكم ويتفاعل.
في المقابل، تجد كثيرا ممن لا يريد أن يفهم، فمجرد العنوان أو جملة في المتن تم تفسيرها بناء على معايير خاصة، أو حتى شخصية المقدم تستفزه، وحينها تصدح الأصوات لتحاصره، وتنعته بأبشع الأوصاف، وتبدأ المطالبات تعلو بمحاسبته، بل منهم من يطالب بسلخ الجنسية عنه، وطرده خارج البلاد!.
وفي المقابل نجد "المطبلين" الذين أجد أن أفضل ما يمكن وصفهم به المثل التالي: "لساني ما عدمتك كيفما أردت أدرتك"، فكلما خرج مسؤول بتصريح أو مشروع أو ما شابه ذلك، بدأت الجوقات تعمل بكل تفان، فتحول المرّ حلوا، والواضح مشوشا، حتى الحلو تُحليه لدرجة لا تستطيع بلعه، والواضح تكبره لدرجه يصعب رؤيته، المهم عندهم "التطبيل"، حتى وإن كانوا بالأمس ضده أو ما يزالون في الخفاء!
ثم تصعد إلى المسرح مجموعات "الأبواق" التي تأخذ مقاطع من التطبيل وتعيد صياغتها بكل الأشكال الممكنة: دينية، أخلاقية، اجتماعية، تنموية. كلٌ حسب تخصصه، ثم تنشرها على كل الوسائل المتاحة، وإن عطست بالغلط أو قلت "بم" فُتحت عليك كل الأسلحة تقاضيك ليس على التساؤل أو طلب التوضيح، بل على النية التي يفصلونها لك، ويجب عليك أن ترتديها، وتبدأ بالدفاع عن كل شيء يخصك إلاّ القضية قيد النقاش!
حب الوطن ليس فقط غريزة متأصلة في دواخلنا، نحنّ إليه كلما ابتعدنا، ونذوب شوقا إلى كل ذرة من ترابه، وليس فقط الانتفاض والغضب إذا تعرض لأي أذى أو اعتداء أو هجوم. حب الوطن أن نقف إلى جانبه ونعمل على رقيه بالبناء والعمل الجاد. أن نكون على قدر كاف من المسؤولية. من الوعي والثقافة والمعرفة بحقائق الأمور، بحيث تكون لدينا القدرة على تفعيل التفكير والمبادئ المنبثقة من ديننا الحنيف، كي ننقد بموضوعية، خاصة عند مواجهة تحديات أو قضايا تهم حاضره ومستقبله.
من ينتقد السلبيات لا يعني بالضرورة أنه ينوي الهدم، وبالتأكيد لا يعمل على نشر الغسيل كما يدعي البعض، ثم إن الفضاء "السايبري" بواباته مفتوحة "على البحري"، وأصبح العالم قرية صغيرة. لنقربها مجازيا: إن عطست في الصحراء وقلت: "الحمد لله"، جاءتك الإجابة من ألاسكا ﺑ"يرحمكم الله"، بمعنى أن أي حدث، صغيرا كان أم كبيرا، يصل وإن لم تكن تقصد له بالنشر.
قد يفهمك الآخر ويساندك، وقد لا يفهمك ويعاديك. المهم أنت كيف تصرفت مع هذا الحدث، بإيجابية ونقد ذاتي شفاف، ثم المعالجة والإصلاح، أم بالتبريرات والحجج والواهية.
إن تصرفت إيجابيا تُلجم الأصوات المعادية، وتُساندك الأصوات الصديقة، وبل قد تَكسب بعض الأصوات التي كانت تجهلك، وإن تصرفت بسلبية مع الوقت تخسر الجميع. تحدثت فقط عمن هم في أقاصي العالم فكيف بمن يشاركونك الأرض والهوية!
لقد أرهقتنا فعلا حروب المدارس التي لا تكاد تنطفئ حتى تستعر من جديد! لدينا من المفكرين ما يفوق الحاجة، ما نحتاج إليه اليوم هو المنفذين والفاعلين في دورة البناء والتجديد، أما المطبلون والأبواق، باعتقادي وإيماني الشديد هم من يسهم في السماح للفساد في التفشي، والهدر في الموارد، والإخفاق في تحمل المسؤولية. يتعاملون مع المسؤول، وليس بالضرورة يؤمنون، أيا كان مجال عمله، وكأنه ملاك مُنزّل لا يخطئ! وأن الخطأ من جميع من يقع تحت مسؤوليته إلا هو أو هي!
يعتقدون أنهم يخدمون الوطن، وهم بذلك أول من يسهم في تدميره، لا سمح الله، ألا يعلمون أننا حين نحدد الخطأ أو السلبيات وندعو إلى التعامل معها جميعا من أجل إصلاحها هو المسار الأفضل في البناء والرقي!
العمل الناجح لا يحتاج إلى مطبل، إنه يتحدث عن نفسه بنفسه وهو المطلوب وهو الواجب المتوقع، بينما النقد البناء يكشف الأخطاء إن وجدت ويطالب بإصلاحها.
إذن، لنتشارك جميعا في نهضة الوطن، بالعمل والمشاركة الفاعلة في محاربة الفساد والهدر والتهرب من المسؤولية والإخلال بأمن البلاد، لنضع أيدينا في أيدي كل مسؤول، ولنقدم له النصح والنقد حيث يحتاج الأمر إلى ذلك.
في النهاية، إلى أصحاب المدارس الفكرية المختلفة أقول: مهما كانت الاختلافات فعلى الأقل ليكن الاتفاق على الأرض؛ الهوية التي تشملنا جميعا، أما أنتم أيها المطبلون، رجاء تخلوا عن طبولكم، فضجيجها يمنع أصواتنا من الوصول! ارحموا البلد وارحمونا. إن لم تتوقفوا عن هذا التلويث، فإن الخاسر الأكبر سيكون أنتم ونحن، وبالتالي: الوطن.
< السابق | التالي > |
---|