إنه وقت العودة إلى المدارس، وحديثي اليوم موجه لمعلمي ومعلمات مراحل التعليم العام، الذين بلا شك يحملون أصعب مهمات المجتمع، العمل على بناء شخصيات مؤمنة وصالحة ومفكرة وحرة، واليوم نرى التناحر المفزع ليس على مستوى أمتنا فحسب؛ بل الذي وصل إلى مستوى المجتمعات المحلية.. إنه زمن الفتنة، الكل من حولنا حمل شعار فكرة أو معتقد وبدأ بعمليات الإقصاء؛ إما معنا أو علينا، إما صديق تقف معنا وإما عدو تحارب بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، طبعا حسب القدرات والأتباع!
إنه فكر سرطاني ضرب جذروه في ثقافتنا، والمشكلة أنه رغم الأصوات القليلة التي نبهت إلى أخطاره والنتائج المدمرة لأي مجتمع يسري داخل دمائها، إلا أننا كل يوم نواجه معركة جديدة، لن أتحدث هنا عن نوعية المعارك، ولكن ما أريده هو إيجاد السبل لرسم أفضل الحلول للخروج من العقلية التي أدت بنا إلى هذا الطريق المظلم، وكمعلمين ومعلمات أمامنا اليوم مسؤولية البدء في العمل على التغيير، المواجهة ثم التعامل مع القضية، ليس كقضية سطحية بل كقضية مصيرية، إن لم نعالجها فسوف تتفاقم إلى أن تخرج عن السيطرة.
يجب أن نبدأ بغربلة الأفكار التي ضربت بجذورها عميقا في ثقافتنا، وآن الأوان أن نواجهها بالتحدي، كيف؟ أن ندرب طلابنا على الخروج من الصندوق الضيق والتفكير بمهارات تبدأ من التساؤل، وتمر بالبحث، لتنتهي بالقياس وصولا إلى الحكم السليم، لأنهم إن لم يفعلوا فلن يكون بمقدرونا مساعدتهم على التغيير استعدادا لرفض كل ما يهدد أمتهم ومجتمعاتهم، لن نساعدهم على التعرف على التسلط والاستبداد، على عمليات البرمجة الجماعية من قبل القلة التي لا يهمها مصلحة الأكثرية، بل ما يعنيها الربح والخسارة، وعليه فلن يفكروا بطرق على الأقل للمساعدة في مواجهة تحديات العصر من الحروب والجوع والمرض وعدم المساواة والتمييز على أساس الجنس أو الدين أو الفكر أو المعتقد، ما نريده هو الابتعاد عن كل ذلك، ما نريده هو الأمن والسلام، ما نريده هو المحبة والتعاطف، ما نريده هو الحوار والمشاركة في البناء.
من قال إننا جميعا لنا نفس المصالح، نفس الرؤى، والأماني، والآمال؟ لكن لدينا أرض واحدة نعيش عليها، فلماذا نقوم بتدميرها وكل ما عليها؟! لا نريد أجيالا عدائية ولا نريد أجيالا ضعيفة، نريد أجيالا واعية قوية بقدراتها الفكرية والتحليلية، أجيالا تقدر استقلالية الغير، تاريخ الغير، ثقافة الغير، ولكن في الوقت نفسه نريد أجيالا لديها إرادة قوية على المواجهة والتحدي لكل ما قد يشكل خطرا على أمتها، ووطنها، ومجتمعها، وأسرتها، ونعم على كل فرد على حدة، فعلى سبيل المثال لا الحصر، لا نريد أن يخدعوا بشعارات الشركات التي تتحدث عن مصالح موظفيها، وأنها تعمل من أجل الجميع، مصالح من؟ المساهمين، أم رأس المال، أم الرئيس التنفيذي أم المدير العام؟! هل تم أن ضحت شركة بمن هم فوق من أجل من هم تحت؟! إن من يقوم بالتوزيع ويدور حول المدينة تحت الشمس الحارقة ليست لديه نفس المصلحة كمن يدير مجلس الإدارة، المهم هنا أن يُعرف من يعمل لمصلحة من، وندرب الأجيال القادمة على عدم الخلط بين المصالح وتحديد من يقف خلف كل مصلحة، وكيف تدار عمليات الإقناع بأن ما يجري هو لمصلحة الكل بينما هي لمصلحة القلة!
يجب ألا نتجاهل أن عند معظم الناس، المصلحة الأولى تتشكل في محاور التحصل على وظيفة، والرعاية الصحية، ومستوى لائق من المعيشة، والأمن والأمان، النسب تختلف من شخص لآخر حسب المستوى المعيشي، والصحة، والمسكن، أما التعليم فهو تحصيل حاصل! لو أن التعليم هو الأول أو مسجل أصلا على القائمة لوجدت تحركات جماعية من أولياء الأمور للضغط الفعلي على المسؤولين في المفاصل المؤثرة في وزارة التربية والتعليم، وما نراه هو مجرد شكاوى فردية، نراها أحيانا على موجات إعلامنا الموقر الذي يهمه أخبار المشاهير من جميع مناحي الحياة أكثر من المواطن العادي؛ سجالات هنا، وتبادل الاتهامات هناك، وزواج هذه وطلاق تلك (يا هم ليلي)، قضايا أسميها فرقعة "فشار"! أما القضايا المهمة التي تهم المواطن العادي فيتم التعامل معها على استحياء، وإن تم ذلك فلا يعاد الرجوع إليها لعرض النتائج من تغييرات! وأحيانا أخرى نشاهد شكاوى على صفحات الشبكة العنكبوتية، ولكن قبل وخلال وإلى الآن، لم أسمع بتشكيل لجنة واحدة من أولياء الأمور يتم اختيارها من الأغلبية في منطقة تعليمية ما، للذهاب والتحدث نيابة عنها والإصرار على التوصل إلى اتفاقيات تضمن التغيير المنشود!
نحن غريبون حقا! نفور ونرغي ونزبد لقضية تصعق أو تهز الرأي العام، ونشغل الإعلام والنت والقاصي والداني لفترة، ثم "فش" يختفي الأمر بسرعة كما بدأ، وينتهي الاتصال و"ألووو" نأخذ الاتصال الذي بعده!
نعم لسنا الأفضل، ولكننا أيضا لسنا الأسوأ، إن طرق تعاطينا مع القضايا مما يجر المرء إلى القهر! يجب أن نتخلى عن الغطرسة الفارغة التي لم تؤد بنا إلا إلى المتاعب، ونعلم الأجيال القادمة التواضع واحترام من يختلف عنا أو معنا، لسنا مجبرين على التقبل، ولكن بالتفكر والتدبر، أن نعلمهم أيضا مهارات التفكير الناقد، وندربهم على الإرادة والتصميم على تكملة كل ما بدأ، ولا تُترك خيوط أي قضية معلقة، فحياتنا ليست فرقعات صحفية، حياتنا روح ودم وأرض، حياتنا تاريخ ومستقبل، حياتنا ألوان وشرائح، حياتنا تقارب وتناقض، مبادئ وتراث، حياتنا قيم وأخلاق، حياتنا عبادة وتضحية، حياتنا إنسان و.. إنسانية.
تحية إلى كل معلم ومعلمة، وأعانكم الله على حمل الأمانة وأداء الرسالة وتحمل المسؤولية، وقبل ذلك وبعده المجهود والصبر والمعاناة؛ أثقال فعلا لا تحسدون عليها.
< السابق | التالي > |
---|