”ما الذي تفعله هنا؟“ تسألني فتاة الاعلان. ”ربما كنتُ موجودا في المكان الخطأ“ قلت لنفسي. الفتاة السمراء هناك تبتسم للعابرين.
كنتُ أجلس في موقف الحافلة كما لو أنني أنتظر الحافلة فعلا.
ربما توهمت فتاة الاعلان ذلك فرغبت في أن تسليني. كنتُ وحيدا. لا أحد من المارة أشفق علي وجلس. لم أخبرها أنني جلست كثيرا في مواقف الحافلات وفي محطات القطارات وعلى الموانئ، من غير أن أنتظر حافلة أو قطارا أو سفينة. لن القي بالجمال في موقد الحيرة والارتباك. كانت الفتاة تقف بطريقة متحدية، مستعارة من أفلام رعاة البقر. كنت منتشيا وأنا أنظر إليها جانبيا. حياء ريفي جعلني أمارس النظر إليها خلسة، لكن ببطء ومتعة. في الوقت نفسه كانت فتاة الاعلان تنظر إلي مباشرة وبجرأة. ”أنت في بيتي“ تتخطاني نظرتها لتنزلق على الثلج البعيد. هناك تحت الجسر، بين آنيتي ورد يابس، على شباك المطبخ في شقة تقع في الطابق الأرضي. ”ولكن فعلا ما الذي تفعله هنا؟“ بدلا من أكون هنا ينبغي أن أكون هناك. أهذا ما تقصده؟ ولكن أين يقع ذلك الهناك؟ سأسألها في المرة القادمة من أجل أن نتسلى. ابتسمت لها. ”أنت منسي إذن“ لم يكن ما قالته سؤالا. كان شيئا يشبهني. يقع علي من سحابة عابرة مثل خيط من البرق. ثمة هلاك عظيم في ذلك الهناك الذي تلوحين به وتريدين مني الذهاب إليه. كان النسيان ضروريا من أجل أن تخترع قدماي اسلوبا جديدا في المشي، من أجل أن تنزلق الكلمات على لساني من غير أن تجرحه، من أجل أن تلمس يدي حجرا وتقول له: ”يا أخي“. لن أعذبك. أنت تحتاجين إلى أن تتذكري ألوان القمصان والسراويل والتنورات والشالات والأحذية والقبعات التي في خزانة ثيابك. تحتاجين إلى الساعات المنزلية الصغيرة التي تبعثرينها في كل مكان من أجل أن تعرفي ما الوقت. تحتاجين إلى الدفاتر الصغيرة وقصاصات الورق الملونة لكي تدوني عليها مواعيدك وملاحظاتك وما تنوين القيام به أو تسوقه. تحتاجين إلى حقائب اليد، هناك حيث تضعين أشياءك الناعمة والصغيرة، التي تحملينها معك اينما تذهبين.
”نحن مختلفان إذن؟“
”ليس تماما“
سألتفت إليك هذه المرة. أتعرفين لمَ لا أود الذهاب إلى البيت مستعجلا كما يفعل المسنون هنا؟ لأنه لا بيت لي هنا يا صديقي. تغمض الفتاة عينيها اشفاقا. خُيل إلي أنها قامت بذلك، في اللحظة التي كنت فيها أسعى إلى أن أرى تأثير كلماتي على وجهها. ”لن أراك غدا“ سيكون علي أن أبحث عن مأوى آخر. لا يصلح موقف الحافلة مأوى لمرتين في حياة المرء. ”كنتُ أتبعك“ اعترفتُ لها. قلت لنفسي سيكون ليل الاعلان مريحا. لا بأس. سيقع ذلك أمام المارة في الشارع، ولكنه الفعل الذي لا يعاقب عليه القانون. ستكونين معي في السراء والضراء. ستدفعين عني الشر. الفتاة الحلوة التي لم تغادر بيتها إلا قبل نصف ساعة وستعود إليه متأنقة ومهذبة وطاهرة بعد نصف ساعة، على الأكثر. لقد عدتُ إلى هنا لكي أبحثَ عنك. ”وهل كنتَ هنا من قبل؟“ كان لدي دائما هنا. هنا أضع رأسي على وسادته لاحلم، أطعمه حبات الفول المطبوخ وأنسج لرأسه تيجانا من القصاصات الورقية وعيدان الثقاب وأغصان النعناع، أجره مثل تلميذ إلى كرسي الدرس وأملأ عينيه بضوء الكتب، أدسه بين الخرائط فيتسلل بدعة مثل قنفذ بين التضاريس. في الماضي كان لدي هنا يا صديقتي. ولكنه صار يفتقد إلى الفراغ الذي يأويه بعد أن غادر صفته مكانا. لم يعد ذلك اﻟ”هنا“ مكانا. صار اصبعا سادسا في اليد، كلمة فالتة من المعجم ولا معنى لها، رشقة ضوء تقع بين صفحتي الليل والنهار، نبتة استوائية حملها مغامر الى القطب وزرعها بين ضلوعه، تحت القلب مباشرة.
التقيت غرباء كثيرين في حياتي. بل يمكنني القول ان معظم الذين التقيتهم كانوا من الغرباء. رسامين وكتابا واباطرة سابقين وشعراء متقاعدين ومحاربين معزولين وأنبياء من غير شعوب ولا كتب ومشعوذات وقارئات فنجان وكف ورمل وفاتنات سابقات وبائعي طيور ومؤجري سحب ومشائين وكهانا مطرودين من المعابد والصلوات ومخترعي امجاد وصولات وشيوخ قبائل لم يكن لها وجود. عشت غريبا فصار قدري أن لا ألتقي إلا الغرباء من أمثالي.
”كم كنتَ وحيدا يا صديقي“
كنتُ غريبا بين الغرباء ووحيدا وحدي. التقيت ذات مرة رجلا يمشي وحيدا على سطح البحيرة المتجمد. حدث ذلك في هلستا همر، البلدة الأسوجية الأولى التي أقمت فيها. قال لي يومها ذلك الرجل: ”وما ذنبك؟“ تساءلت مندهشا: ”كما لو انك تتحدث عن عقاب؟“ أمسك الرجل بيدي وقال لي: ”منذ ايام وأنا أراك تمشي على سطح البحيرة وحيدا. تذهب إلى الغابة وحيدا وتعود منها وحيدا. أفهم أن المرء يمكنه أن يكون غريبا. ولكن من الصعب عليه أن يكون غريبا ووحيدا في الوقت نفسه“ وحين دعاني إلى مقهى قريب لنشرب القهوة معا، صار يحكي لي عن تفاصيل يومه، فاكتشفت ان الرجل كان مثلي غريبا ووحيدا.
”ولكنك مثلي يا صديقي، غريب ووحيد وأنت في بلدك“
تأملني صامتا ونفث دخان سيجارته وقال: ”ولكن البلد ناسها. هل رأيت بشرا في هذه البلاد؟“ ولأنني كنت في تلك اللحظة المحلقة من حياتي قد مزجت البشر والبقر والحجر في عجينة متجانسة من الايقاع الموسيقي اللين فقد كان صعبا علي أن اهتدي إلى دروب المتاهة التي كان صاحبي قد مشى فيها قبلي. كان الجمال يباغتني في كل لحظة تأمل وكانت الإنسانية تحيطني بكرمها ونبلها من كل الجهات. صمتُ واعتبرت صاحبي متشائما. في الحقيقة لم أكن يومها في حاجة إلى سبب مضاف للكآبة. ربت صاحبي على كتفي وهو يبتسم: ”ليدم فرحك“.
آلمتني جملته. كانت عنوانا لرواية جان جينو التي لم أكمل قراءتها. لقد تركت ذلك الكتاب مفتوحا على المنضدة يوم غادرت بيتي ولم أعد إليه. لسنوات ظل ذلك الكتاب مفتوحا. ذات يوم انتبهت فتاة كانت مكلفة بتنظيف البيت بين حين وآخر إلى ذلك الكتاب وقلبته. يومها شعرت بالحيرة فاتصلت بي تسألني هل تبقيه كما هو أم تغلقه. بالنسبة لي كانت الاجابة صعبة. لقد اختلطت أصوات كثيرة في رأسي. غير أنني حسمت الأمر وقلت لها: ”اغلقيه“. انتصر الصوت الذي كان يقول: ”لن تعود”. لن أعود ولكن فرحي سيدوم. صرنا أثنين. صار المزارعون والحطابون يرون شبحينا وهما يعبران البحيرة، يمشيان على الماء مثل موسى ورعيته، يختفيان في الغابة ويرسمان الغزلان ويجلسان في المقهى ويتسوقان ويقفان في انتظار الحافلة. ذات يوم وفي لحظة نشوة التفت إلي صاحبي وقال: ”ما زلتُ غريبا، لكني بسببك لم أعد وحيدا“ قال لي الجملة التي كنت أود لو أنني سبقته إليها.
< السابق | التالي > |
---|