ليست حكاية، انها الحياة. ليست واقعا، إنها الكتابة
نفشل في العذاب حين نبكي. لن يكتمل الدرس. هناك أصبع ناقص، هو ذلك الأصبع الذي يستر الكلمة المحذوفة. تخدعنا الحقيقة حين توهمنا بأنها تتخيل. الواقع ليس كذلك.
الواقع يقع لأنه مريض برغبته في الظهور. يفتك بنا حين يريق ماءه على شفاهنا على شكل تمتمات واهية. ينقصنا بعض القطع لتكتمل اللعبة. كل شيء جاهز، من الوقت السائل إلى القدمين الحافيتين. في كل ما نحاول القيام به هناك فقرة لا يمكننا سوى الاعتراف بعجزنا عن الوصول إليها، ذلك لأننا لا نعرف أين تقع. نذهب الى السوق وحين نعود إلى البيت نكتشف اننا أشترينا أشياء كثيرة ماعدا الشيء الذي ذهبنا إلى السوق من أجله. ذهب المال وبقيت الغصة. لم تسقط ذرة الرمل على كتف الدقيقة الهاربة وليس للندم جناحان. أليس من حقنا أن لا نشعر بالاطمئنان؟ حواسنا ترتاب بنا. نحن في المقابل نثقل عليها بذنوبنا. تبدو الاشياء التي جلبناها من السوق عديمة القيمة قياسا بالشيء المفقود. كأننا نقسو حين نتذكر. نطيع موقفا لم نتخذه. ما الذي يخبئه الغد لنا؟ أصر على أن الكتابة هي حل غامض. هي بالتأكيد فعل غامض. يصر الآخرون على أن الحياة ليس حلا أمثل ما لم تخترقها الحكايات، طولا وعرضا. ننزلق على سطح مرآة أملس من غير أن نتحقق من سلامة جلودنا.
خارج الكتابة هناك معنى للحياة أيضا.
ليس البشر ممثلين دائما.
أحيانا يكتب الروائيون في الصفحة الأولى من رواياتهم ما يشير إلى أن كل ما سيرد في هذه الرواية هو من اختراع الخيال و”ان أي تشابه في الأحداث أو الشخصيات مع الواقع هو محض صدفة“، شيء من هذا القبيل يدفعني الى الشعور بان كل ما في الرواية التي سأقرأها سيكون واقعيا. مئة بالمئة. الكاتب هنا لا يخشى الفضيحة بل يؤكدها ويستسلم لها بطيش. والفنان كما هو معروف لص بريء إلا في ما ندر. نحن نطعم الموتى أجراسا وصلوات ومناديل وأدعية وساعات رمادية حين الكتابة. لحظة الكتابة نتذكر الشيء المفقود، الفقرة السائبة، ولكننا لا نقوى على الذهاب الى النقطة الحرجة: هناك حيث لا مفر من الفشل.
ما من شيء يقع خارج ما نعرفه. هذه بداية لمزاج مخيَب.
روى لي رجل بوسني جلس إلى جانبي ذات مرة في القطار الذاهب الى ستكهولم الحكاية التالية، قال: ”كنت جالسا ذات مرة على ضفة النهر أشرب النبيذ، فسمعت أصواتا غريبة جعلتني أشعر بالخوف فهربت واختبأت وراء أكمة من الأشجار، غير أنني اكتشفت أني نسيت قنينة النبيذ في المكان الذي كنت أجلس فيه. صرت أنظر بأسى إلى القنينة وقد أمسك بها أحد الجنود الصرب الثلاثة متأملا. قال له زميله وهو يمد يده الى القنينة: لنشرب نخب انتصارنا؟ غير أن الجندي الذي كان يحمل القنينة أعادها إلى مكانها وهو يقول لزميله: سيعود الرجل ليكمل جلسته التأملية وسيكون في حاجة الى ما تبقى من النبيذ. كنتُ أنا الرجل المقصود. حين ترك الجنود الصرب الثلاثة المكان قررت أن أخرج من مخبئي وأذهب الى ضفة النهر لأكمل جلستي وأشرب ما تبقى من النبيذ. غير أن ضجة سمعتها منعتني من الخروج. لقد رأيت عشرات القرويين البوسنيين يقتربون من المكان وسمعت أحدهم يصرخ بفرح: لقد ترك الأوغاد قنينة نبيذهم. هيا لنشرب نخب هزيمتهم. تنقلت القنينة بين الأيدي بسرعة ورميت فارغة في النهر“
سكت البوسني ونظر إلي بعينين دامعتين.
حكايته الواقعية لا تمت إلى الحقيقة بصلة، غير أن أحداثها وقعت فعلا. كان الرجل بطلها الذي خرج من التجربة بخبرة يائسة وبألم لا يُضاهى. تمنى لو أنه لم ير المشهد. لم يعشه باعتباره بطلا. وتمنى أيضا لو أنه لم يرو الحكاية لغريب مثلي، التقى به في قطار سعيد.
لقد وجدت نفسي حين انتهى رفيق سفري من حكايته وأنا أبحر في خيال لغة صامتة. موضوعيا فإن المشهد الذي رآه صاحبي ورواه يمكن تقطيع أوصاله، ومن ثم اعادة بنائه. غير أن كل محاولة لاعادة البناء لابد أن تصطدم بعقدة: هناك قطع ناقصة من لعبة البازلت. أشفق الصرب على رجل لم يكمل شرب نبيذه، غير أنهم ربما قتلوا طفلا كان يرتوي من ثدي أمه. ربما كانوا قد أحرقوا قرية. ربما أصيبت الملائكة بسببهم بالهلع. القرويون من جهتهم لم يهزموا أحدا. لقد شُبه لهم. غير أن احتفالهم كان عبثيا. ردة فعل مجانية.
قال لي الرجل البوسني حين ودعني ونحن نهبط من القطار: ”هذه هي المرة الأولى التي أروي فيها تلك الحكاية“ واختفى بين الجموع.
مثل كل الروائيين، كل الكتاب، كان الرجل فاشلا في الوصول إلى الحقيقة. بعد هذه المرة سيروي الرجل تلك الحكاية في استمرار. انحلت عقدة لسانه، وقد ينسبها إلي باعتباري بوسنيا التقاه صدفة في القطار الذاهب الى ستكهولم.
تصر فرانشيسكا فيني (فنانة ايطالية 1970) على الارتطام بمرآة هي عبارة عن كرة بلورية. عارية تدخل إلى عمق المرآة، هناك تتعدد أشكالها. تتعذب لأنها لا ترى سوى ما يسبب لها الأمل. ما من شيء سوى ما يجرح. تخرج من المرآة متعددة، غير أن شظايا المرآة سرعان ما تلتصق بها، تغطي جسدها. تصبح فرانشيسكا مرآة، لكن ليست بسطح مستو، بل بشظايا. لعبة البازلت نفسها. ليست هناك حكاية واحدة، يمكن لفرانشيسكا أن ترويها، بل هناك حكايات. كل جزء من المرآة يرى ويظهر الشيء الذي يراه. لقد تجزأت فرانشيسكا، لا بسبب النظر إلى المرآة، بل لأنها في حقيقتها كانت كذلك.
كل صباح ننتهي إلى الفشل الذي نتوقعه.
”الحياة يمكنها أن تمر من غير حكايات“. هذه كذبة. يمكننا القول أن الحكايات يمكنها أن تكون من غير معنى. تلك جملة تفسد التاريخ. نحن نكتب من أجل أن نضع المعنى في الماء المغلي، ليتبخر. حينها ينتقل المعنى من الحالة الصلبة إلى الحالة الغازية. الحكايات هواء. لسنا هواء تلك الحكايات. نحن نتنفس الحكاية مثلما نفعل بالهواء. حين نكتب فان أصابعنا تتبع أثر زفيرنا. في ذلك القطار الذاهب إلى ستكهولم كان صاحبي البوسني ينظر من خلال زجاج النافذة إلى الحقول الشاسعة التي كان القطار يجتازها، وكان يتخيل نفسه جالسا على ضفة النهر وهو يشرب النبيذ من غير أن تصله أصوات الجنود الصرب. يقول لي: ”لو أنهم لم يأتوا لكنت شربت القنينة كاملة بدلا من أن يشربها القرويون الأوغاد“.
لكن الجنود أتوا من أجل أن تكون هناك حكاية. ومن أجل أن لا يكون لك غد. لم أقل له أن كل مستقبل صار وراءه. ذلك لانه أخبرني أنه ذاهب إلى العاصمة بحثا عن عمل مناسب لسنه.
قنينة نبيذ صلبة في خياله. النبيذ يسيل في دمه. اما الحكاية فانها لا تكف عن التحليق وهي في حالتها الغازية. في سياق تلك الحكاية لم يكن الصرب أوغادا. كان البوسنيون هم الأوغاد. ولكن الحكاية تكذب وهو لا يصدقها لذلك فانه لم يروها لأحد.
”هذه هي المرة الأولى التي أروي فيها تلك الحكاية“
لن تكون الأخيرة. أنا متأكد من ذلك. مثل فرانشيسكا عِثر الرجل البوسني على المرآة التي في إمكانها أن تشظي روحه. عثر علي لكي أروي حكايته أو اختلقها.
< السابق | التالي > |
---|