لم يمر على الأمة العربية منذ ثورات تحررها من الاستعمار الكولونيالي ما هو أهم من ثورات ربيعها. وتسمية "ربيع عربي" جاءت من أوروبا التي رأت في حراك الشعوب العربية المتزامن ودونما تنسيق بينها، نسخة مطابقة لثورات "ربيع الشعوب الأوروبية" منتصف القرن التاسع عشر،
والتي أوصلت أوروبا لما هي فيه من حريات وأمن ورفاه. وتطابق الثورتين الذي ألزم بالتسمية ذاتها دليل على أن ما جرى في الحالتين هو "حتمية تاريخية" ستفرض ذات التغيير رغم جهود قوى الشد العكسي. ومجمل ما تحاوله هذه القوى القفز عن استحقاقات المرحلة بزعم ضرورة "جدولة" حقوق ومطالب الشعوب "غير الناضجة" بما يؤهلها لتولي أمورها بنفسها!
ومن أعجب ما استجد هنا قول كاتب وباحث يطل علينا من مواقع رسمية أو تمر بالرضا الرسمي باعتباره متخصصًا في الحركات الإسلامية، أن علينا بعد فشل "المدرسة الحركية" للإخوان أن نستعيد مدارس إسلامية سابقة، وتحديدًا "المدرسة الثقافية" بالعودة لأئمتها في القرن الماضي محمد عبده ومالك بن نبي، والتي ترى أولوية التربية والتعليم والإصلاح الديني وتنمية المجتمعات لتتأهل "كرافعة للإصلاح السياسي"، في عودة للجدل السفسطائي حول "البيضة والدجاجة".. ولا ندري إن كانت إعادة مداولتنا بين مدارس دينية ستأهلنا "كدجاجات" تبيض الديمقراطية أو "بيضًا" يفقس عنها!، فالحسم صعب في ظل تفقيس القاعدة وحدها لعدة تنظيمات تقتتل فيما بينها أو حتى تقاتل التنظيم الأم، ناهيك عن تفقيسات الطوائف في كل الأديان وتداول التكفير فيما بينها بحيث ينكر كلٌّ المنبت الديني للآخر!.
والباحث هنا لا يقرّ صراحة بفشل الإخوان، الذين ليست لهم كما ليست للمدرسة الثقافية (التي ترفض ابتداءً العمل السياسي) أي فضل فيما أنجزه الشباب العربي والذي هو، بإقرار الكاتب، "تكسير القابلية للاستبداد". ولكن الكاتب يريد إعادة تدويرنا بين تلك المدارس الدينية لتنمي فينا "قابلية للديمقراطية" بحيث نصب مؤمنين "بالتعددية الدينية والسياسية والثقافية وبدولة القانون وبدور تنويري للدين"!.
لا أحد في ثورات الربيع العربي رفض التعددية الدينية والعقلانية. الرافضون لهذا هم الإسلاميون تحديدًا، ولا نعرف في تاريخ البشرية عن حركة دينية "دعت" لتعدد ديني! والإخوان والسلفيون وبقية التنظيمات والحركات الإسلامية لم تشارك في ثورة مصر ابتداءً وكانوا مشاركين ثانويين في ثورة تونس، والأخيرة نجحت لأن التوانسة رفضوا تسليم شأنهم للإسلاميين وأصروا على دولة مدنية ديمقراطية.
ومما يزيد وجه الشبه بين هكذا طرح وبين الجدولة المطولة لإصلاح رسمي مزعوم، أنه لا يرى في التجرية الأوروبية سوى وجوب تخصيصنا قرنًا من الزمان في التنظير أو تجريب الخطأ المجرب قبل أن ندخل في الديمقراطية المجربة والثابت صوابها، والتي أمكنت في أوروبا تحديدًا بفصل الدين عن الدولة. وهذا الفصل لا يعني رفض التدين، ولكنه يتيح "حرية الرأي والأديان وتعددها ودولة القانون" التي يتحدث عنها الكاتب!.
المراحل التي يريد كاتبنا أن نمر بها بزعم عدم جواز "حرق المراحل" هي إرث قرون من الجهل الأوروبي كرسه تحالف الملوك مع الكنيسة، وساعدت عليها أميّة الحرف التي تواطأ عليها الطرفان حد إبقاء العلوم كلها وحتى نص الإنجيل في كامل أوروبا، باللاتينية! فيما قرآننا نزل على نبينا عربيًا وخاطب كل الناطقين بها مباشرة بلا وسطاء. ونحن الآن في عصر الاتصال الرقمي والفضائيات التي تتيح المعرفة بكل أحوال دنيانا بالصوت والصورة حتى لمن تبقى من الأميين، ما يجعلنا "أدرى بها" حتى من محمد عبده ومالك بن نبي!.
وحتمًا لا حاجة لنا لقرن لنتأهل لوضع ورقة في صندوق عليها اسم أو تأشير على من نريد أن يحكمنا، ومن نريد أن يحاسب الحكام إن فسدوا أو ظلموا أثناء فترة تخويلنا لهم بالحكم. فهذ لا يختلف عن حق اختيار الطبيب الذي يعالجنا والمحامي الذي يمثلنا (رغم جهلنا بالطب والقوانين بما لا يقارن بجهلنا المزعزم بالسياسة) وحتى اختيار حارس بيتنا أو مزرعتنا أو حلاقنا.. وكلهم يمكن أن نغيرهم ولا يعني هذا أننا غيرنا ديننا! فلماذا يختلف الأمر حين يكبر كلا الغُنم والغُرم بكون الاختيار لحاكم أو نائب أو حتى رئيس بلدية؟!.
ولا نسمع بوجوب التدرج وعدم حرق المراحل في أمور أخرى أتتنا كخلاصة لتجارب وإنجازات غربية، كأن يشترط علينا أن نعود للحمام الزاجل والمنادي ورسائل الدخان وساعي البريد قبل أن نشرع في استعمال الموبايل والإنترنت! فهل الفارق كون وكلاء التكنولوجيا الحديثة في العالم العربي هم الحكامَ الذين تاجروا، أو شركاءهم أو واجهاتهم.. أو أقلّه جباة جمارك وضرائب من جيوب صغار المستهلكين لتلك التكنولوجيا لخزينة "مخرومة" لجهة الحكام؟!.
الطريف أن أهم ما يسّر ثورات الربيع العربي هو تكنولوجيا الاتصال هذه، والتي تعمل بالضد من كل المنصبين أنفسهم وكلاء للشعوب حكامًا ورجال دين.. فهؤلاء يتساقطون تباعًا بما لم يعد يُعتد معه بتوكيل لا يأتي بأصوات الشعب!.
< السابق | التالي > |
---|