أواجه مشكلة واجهها أصدقاء كثيرون. تغلب عليها بعضهم بجرأة وحسم، وراوغ أكثرهم فتعقدت. المشكلة هي التخلص من عدد هائل من الكتب والدوريات والمقالات والوثائق تراكم عبر السنين. بدأ كما يبدأ أي شيء صغيرا وما أن شب عن الطوق حتى انطلق يزحف من مساحته المقررة له سلفا نحو مساحات
ليست من حقه وبعضها لا يليق به. خرجت الكتب تسد ردهة بعد أخرى وتسللت إلى غرف كان محظورا الدخول فيها وصعدت فوق خزائن ودخلت في أدراج وتسربت تحت مقعد أو آخر. بدأت حياتها معنا عبر علاقة هادئة، وإلى حد ما أنيقة، وانتهت بصداقة متوترة وأحيانا مؤذية.. جسديا وعصبيا.
●●●
سألت واستشرت. حذرني أكثر من صديق من أن «الحل النهائي» لمشكلة المكتبة يوم يتقرر سوف يكون مؤلما، وستسقط فيه ضحايا. جاءت إجابات واستشارات أخرى أقل سلبية. أحد الزملاء وصف لحظة الفراق بأنها ستكون مثل لحظة توديع زائر هبط عليك ذات يوم ولم تمض أيام على استضافته إلا وكان قد استدعى أقرانا وأقارب ثم حلا لكل قرين وقريب أن يأتي بقرين وقريب. عاشوا معا متكاثرين سنوات طويلة وكلهم على أتم الثقة والاطمئنان إلى انك لن تجد الشجاعة الكافية لتطلب منهم الرحيل. قد تفكر أن ترحل أنت إلى مكان آخر. أعدك يا صديقي انك ستشعر ساعة الرحيل انك كمن يغادر فندقا أقام فيه لبعض الوقت.. لا أكثر. لن تذرف دمعة ولن تحن. انتهت نصيحة الزميل.
●●●
قبل اتخاذ قرار الترحيل أو الرحيل، قررت أن أخفف تبعات الفراق بأن أعيد تنظيم المكتبة لأتركها لمن يتولاها برعاية راقية ولطيفة وطيعة كما كانت في عهود علاقتنا المبكرة. احترت في اختيار نظام ترتيب الكتب علما بأنني لست غريبا عن ترتيب الكتب منذ أن تلقيت وأنا طالب بالجامعة عرضا من أحدى أهم المكتبات العامة في القاهرة العمل بها لنصف الوقت. لم أتردد في قبول العرض. ولم أندم يوما على السنوات التي عملت فيها «صبى مكتبة». تعلمت كيف أفهرس الكتب حسب نظام علمي متعارف عليه عالميا، وبالتالي كيف أرتب الكتب على رفوف المكتبة. وبعد فترة التدريب الأولى تعلمت كيف اختار الكتب من الناشرين وأخيرا كيف أرشد زوار المكتبة من الباحثين والطلاب إلى مواقع المعلومات في كتب المراجع ووثائق المكتبة. كانت فرصة ثمينة للتعرف على عدد كبير من أساتذة الجامعات وطلابها. كانوا في ذلك الزمن يقرأون.
●●●
فكرت أن أسلك مسلكا جديدا في ترتيب المكتبة التي نويت أن تتركني أو أتركها. فكرت في ترتيبها زمنيا، أي حسب تاريخ نشر الكتاب أو حسب الزمن الذي يناقشه الكتاب. لم اعرف أنني بذلك أفتح بابا تهب منه ريح عاتية. تعيد طرح سؤال كثيرا ما حيرني وعذبني كما حير، وربما عذب، عشرات بل مئات غيري، سؤال العلاقة بين الزمن والمكان.
تذكرت فيلسوفا قال إن لا خيار لنا في الزمن. نحن كائنات اللحظة وسنبقى دائما كائنات اللحظة. العالم بالنسبة لنا لحظات لا نختارها على عكس المكان الذي غالبا ما يخضع لاختياراتنا. عدت أفكر، لماذا أختار الوقت أداة لترتيب كتبي؟. من أدراني أن قيمة الوقت لم تتغير منذ تاريخ نشر أقدم كتاب موجود عندي؟. ألم يتغير معنى الزمن مع كل المعاني التي تغيرت خلال العقود الماضية؟. هناك من يذكرنا كل يوم بـأن الانترنت «افترس» المسافات ولم يترك مكانا في مكانه، وهناك ما يذكرنا بأنه «افترس» خصوصياتنا ولم يترك سرا في صدر صاحبه أو صاحبته. ومع ذلك لا أحد أبلغنا أن هذا الانترنت «افترس» مراحل الزمن. يستحيل على الانترنت أن يفعل بالزمن ما فعله بالمكان. أم أنه لا يعرف المستحيل.
< السابق | التالي > |
---|