عادت للواجهة مؤخرا، وبكثافة، قضية المشاجرات الدموية والعبثية التي تجري في الجامعات الأردنية وتسمى "عشائرية". وقد كتب صحفيون وأكاديميون كثر عن هذه الظاهرة وشخصوا أسبابها فجاء تشخيصهم بالإجماع على كون الأسباب تراوح ما بين "ترهل" حال الدولة وإدارتها ككل،
ولأثر المكارم الملكية (غير الدستورية) في وهب مقاعد جامعية لطلاب غير مؤهلين للفوز بها بالتنافس، ما يوجد جيشا من غير المؤهلين للعلم وغير المتأدبين بآدابه يتابعون ذات نهج "البلطجة" السياسية التي أدخلتهم الجامعة بلا استحقاق.. وغني عن القول سهولة توظيف هؤلاء لافتعال عنف يستهدف زملاءهم ومرافق الجامعات، تحديدا لانخراط غالبية الشباب الأردني في حراك إصلاحي سلمي تماما ولكن بسقوف عالية تظهر وعي الشباب بحقوقهم السياسية.
سأتوقف هنا عند تسمية هذا الاقتتال داخل الجامعات ﺑ"العشائري"، ولكن قبلها سأتوقف عند جزئية تكريس هيمنة الإسلاميين على المؤسسات التعليمية باتفاق تاريخي مع النظام، موثق بكثافة. فمجالس الطلبة شكلت معركة سياسة طويلة خاضها - كما ثورات الربيع العربي- الطلبة اليساريون والليبراليون بشكل رئيس، ويحاول وراثتها حصريا الإسلاميون وبوسائل عنيفة كتلك التي يقال إن مقترفيها "عشائريون". ولافت موقف الدولة المنحاز تماما في هذه الجزئية للإسلاميين رغم إعلان الغضبة الملكية عليهم، وغضها الطرف حتى عن فتاوى "هدر دم" لطلاب، أي التحريض على القتل وإعلان نيته بسبق الإصرار والتعمد.. موقف يستدر دعم الغرب للنظام بزعم أن البديل الأوحد هو الإسلام المتطرف.
وقفتنا هنا هي لبيان خصوصية أردنية تمنع تكرار ما حدث في سوريا وليبيا من تغلغل السلفيين التكفيريين وقوى القاعدة في صفوف الثورة، أو ما حصل في مصر وتونس من قفز الإسلاميين على ظهر الثورة ومحاولة قلب مسارها.
ففي الأردن أثبتت العشائر أنها مسؤولة وواعية بشبابها وشيوخها "الأصليين" وليس المنصّبين عليها من الحكم. فمنذ عقود بات الديوان الملكي يصدر قائمة بالشيوخ المعتمدين لكل عشيرة، غالبيتهم ليسوا ممن تؤول لهم "الشّيخة". الشيوخ "الحقيقون" معتبرون جميعا لأنه في العرف العشائري لا تؤول الشيخة لسفيه أو فاسد ولو كان وحده من صلب شيخ العشيرة. وحين يبتلى الشيخ بنسل كله سيئ يقال انه "قلب الدلّة" بمعنى انه لم يعد ذاك الشيخ الذي مضافته تقصد لتحصيل حق أو فض نزاع (وفض النزاعات كان يرفق بتحصيل الحق ضمن قوانين عشائرية رادعة وليس بالقفز عنه كما يجري الآن)، وهي مأخوذة من ممارسة بشأن الثأر ذات دلالات.
وكون زعماء تلك العشائر اتفقوا بل وسعوا وناضلوا لأجل دولة ديمقراطية عصرية دستورها كالدستور البريطاني، دليل على أن "العشائرية" بمعناها السلبي الذي آلت إليه لم تكن من صلب طبائع العشائر الأردنية لقرن مضى لا أقل، وإنما تعود لممارسات حكم اغتال الديمقرايطة بالانقلاب على دستورها مرتين، مرة على دستور عام 1946 بحل مجلس النواب المنتخب من الشعب على ضفتي نهره بعدد متساو من المقاعد (لم يزعج هذا أحدا من الشعب) والعودة للإمارة المطلقة.. ومرة ثانية عام 1957 الانقلاب على مجلس نواب منتخب بذات النزاهة وحكومة تشكلت من حزب أغلبية رئيسها من أصول فلسطينية (لم يزعج هذا أيضا أحدا من الشعب بل هم يستذكرون تلك كفترة ذهبية).
وفي ظل الملكية المطلقة أصبحت كل المناصب تتأتى بالتعيين بما فيها النيابة، ما نزل بالصراع ليصبح على مكاسب بين عشائر تقرب للحكم وأخرى تبعد، ومرارا بين بطون وأفخاذ العشيرة ذاتها. وبهذا أسبغت على "العشائرية" سمة تخلف جرى استثمارها مرارا في عروض ما أخذ إليه الصحفي جولدبريج واحد من أحدثها. وبالطبع لا أحد شرح لجولدبيرج أن من حشدوا للعرض ليسوا من تؤول لهم الشيخة بل هم صنائع نظام وأدوات للقمع ولمهمات سياسية مذمومة (كوادي عربة) رفصها زعماء عشائر بحق.
ولافت هنا انه مقابل تمركز هذا الاقتتال "العشائري" على مناصب صغيرة كعضوية مجلس طلبة، لم نعد نرى اقتتالا عشائريا على خلفية انتخابات "نيابية" لا أقل، بل زهدا وصل لمقاطعة غير مسبوقة انتخابا وترشحا، ونرى حراكا "عشائريا" بشكل رئيس موحدا متعاضدا يدعو لإصلاح يعيد السلطات للشعب بأكمله، ويعجز النظام عن اختراقه بالعطايا و"المكرمات".
وحتى في الانتخابات النيابية التي أرادها الحكم أعطت المناطق المسماة "عشائرية" أصواتا لقائمة وطنية تقودها سيدة من أصول فلسطينية أكثر بكثير مما أعطت لقائمة حزب "الديناصور" الذي قدم لجولدبيرج بزعم أنه زعيم عشيرة كبرى. وجزئيات كهذه تفتقت عنها انتخابات لم يكن للشعب فيها قول أبعد من تلك الجزئيات،اسقطت أغلب ما علق "بالعشائرية" من سلبيات. فهكذا "عشائرية" تؤشر على استحالة سقوط الأردن في اقتتال شعبي، لا بزعم اختراقه بمتطرفين محليين أو وافدين ولا بزعم حرب أصول ومنابت.. وكلنا نرى خلف ما تقلص ميدانه لساحة جامعة "أشجارا تسير".
< السابق | التالي > |
---|