متى يحتاج الفرد، ومتى تحتاج الجماعات إلى ممارسة أداة الحوار في حياتهم؟ عندما تكون هناك حاجة لتخفيف الاختلافات وتضارب المصالح من أجل بناء التوازن والوئام والتناغم في علاقاتهم مع الآخرين وحتى مع أنفسهم.
وإذن فعندما يطرح شعار الحاجة للحوار في الحياة السياسية العربية، في كل المجتمعات العربية، بين كل الأنظمة وشعوبها، بين كل القوى السياسية في المجتمع المدني، فإن ذلك ينبئ بخلل هيكلي متجذر في المجال السياسي العربي.
في أيامنا التي نعيش، أينما تولي وجهك فثم شعار الحاجة للحوار مطروحاً كضرورة ملحة مستعجلة. في العراق لا حديث إلا حديث ضرورة التحاور بين السنة والشيعة وبين العرب والأكراد قبل أن ينهار البلد أو يتجزأ.
في مصر لا حديث إلا عن أهمية الحوار بين قيادات الأقباط والمسلمين. في لبنان هناك مأسسة منظمة لحوار وطني بين كل القوى السياسية حول المقاومة وعلاقتها بالدولة. في اليمن هناك طرح من قبل العقلاء بضرورة إجراء حوار بين السلطة في الشمال والمعارضة في الجزء الجنوبي قبل أن تصل الجهتان إلى طلاق انفصالي كارثي.
في الكويت والبحرين والسعودية تنادي المنابر الإعلامية يومياً بأهمية إجراء حوارات بين السنة والشيعة للقضاء على الفتن الطائفية. في الأردن يطرح بقوة شعار الحوار بين الأردنيين والفلسطينيين قبل الوصول إلى فتنة قبلية- عرقية- سياسية تصب في صالح مخططات الصهيونية.
في فلسطين هناك قضية الخروج من حوار الطرشان بين الفصائل الفلسطينية المتناحرة لمواجهة العدو الصهيوني المشترك الذي يقضم يومياً أجزاء جديدة من الوطن المنكوب السليب. في السودان قد ينفصل الجنوب قريباً بسبب عدم ممارسة الحوار في الماضي وفي الوقت نفسه يطرح شعار الحوار مع الفصائل الممانعة في إقليم دارفور قبل أن يصبح البلد سودان دويلات الأندلس التي ضاعت من فضاء العروبة والإسلام.
ولا يسمح المجال لذكر ما تواجهه بقية البلدان العربية الأخرى، وهي جميعها تواجه أهوال الانقسامات والصراعات، غير أن شعارات الحوار تطرح علناً وأحياناً سراً في جميعها.
من هنا السؤال المحوري التالي:
أية أمة، وأي أوطان، وأي سلطات حكم، وأية مجتمعات مدنية، وأي تاريخ، وأية أديان وأيديولوجيات، بل أية عقلية سياسية ثقافية.. أي من هؤلاء جميعاً، وكثيرون غيرهم، يستطيع أن يدعي بأنه في وضع مستقر معقول مقبول عندما يحتاج إلى كل تلك الحوارات من أجل عدم وصوله إلى الجنون أو الابتذال أو الانهيار؟
في كثير من بلدان العالم توجد بين الحين والآخر حاجة للحوار بين بعض مكونات وسلطات المجتمع حول هذا الموضوع أو ذاك. وفي الأغلب توجد تلك الحاجة كظاهرة مؤقتة ومحدودة، لكننا في بلاد العرب أوصلنا مثل هذه الظواهر إلى حالة من الطوفان الذي يكتسح كل مجالات الحياة:
السياسة والفكر والدين والتاريخ والعلاقات الإنسانية وغيرها. لم يبق مجال حياتي لم نوصله إلى حافة التأزم الذي يحتاج إجراء حوار بشأن التفاهم حوله. من كان يصدق أننا سنصل للحاجة للحوار بشأن معاني تعابير من مثل المقاومة والاستعمار والاحتلال والاستيطان، بحيث أصبح بيننا من يعتبر المقاومة الباسلة إرهاباً، واحتلال العراق تحريراً، والقواعد العسكرية الأجنبية حماية، ووحدة الأمة والوطن أحلاماً والاستقلال التنموي الاقتصادي تجديفاً ضد تيار الحداثة العولمي، والعدو الصهيوني حليفاً استراتيجياً في وجه المد الشيعي الإيراني الإسلامي، والاستباحة الثقافية العولمية إدخالاً لنا في عصر الأنوار والحداثة. أصبحنا بحاجة للتحاور حول كل شيء بعد أن غاب الاتفاق حول أي شيء.
لا يوجد أحد عاقل ضد مبدأ الحوار والذي يمثل ظاهرة فكرية واجتماعية صحية رائعة. لكننا نعقل أيضاً بأن العائلة التي يحتاج أفرادها إلى جلسات حوار دائمة لا يمكن أن تكون مستقرة أو سعيدة، وأن الحياة السياسية التي تحتاج السلطة فيها أو تضطر مؤسساتها الفاعلة لإجراء حوارات دائمة بسبب كثرة الخلافات والصراعات لا يمكن اعتبارها في صحة وعافية، وأن الثقافة التي تتجاذبها يمينا ويساراً التناقضات الكبرى المستمرة، وبالتالي تحتاج إلى حوار لا ينتهي إلا ليبدأ، تؤدي إلى بلبلة أفكار ومشاعر معتنقيها.
وإذن فعندما تحتاج الأمة إلى مثل هذا العدد الهائل للحوارات بين مكوناتها فإنها حتماً تعيش ظواهر مرضية كثيرة تحتاج دوماً للأخذ والعطاء تجنباً للانفجارات الكارثية.
ومع ذلك، وطالما أن الحوارات قائمة على قدم وساق في طول وعرض مجتمعات بلاد العرب، فلنمارس هاتين البديهيتين. الأولى عبر عنها اللبناني يواكيم مبارك بقوله: ليس المهم في الحوار أن نأتي بالإجابة عن السؤال وإنما المهم أن نسمع في صمت «أما الثانية فعبر عنها الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت في قوله: جيد أن نطلب الحرية لأنفسنا ولمن يتفقون معنا في الرأي، لكن أفضل من ذلك أن نطلبها للآخرين الذين يخالفوننا الرأي« لعلنا بإجراء الحوارات بهذه الروح المتسامحة نرفع الأقنعة التي تخفي القيح والتشوهات التي كانت السبب وراء هذا الطوفان من الحوارات.
< السابق | التالي > |
---|