لم يتوقف العنف في العراق منذ عام 2003، ما يعطي انطباعا عن تسيد لغة وثقافة العنف على ثقافة السلم، ومن النادر أن ينتقل شعب إلى المظاهرات السلمية وهو يغرق في أعمال عنف، وهذه مسألة تقتضي دراسة اجتماعية تتوغل في حياة العراقيين وثقافتهم، لأن ما هو معروف، أن يبدأ المجتمع بأعمال ونشاطات سلمية، قد تفضي إلى الدماء في حال فشلت تلك المساعي في تحقيق أهدافها، في حين نجد أن القضية تختلف في العراق.
من يتابع المظاهرات في العراق، ويفصل بين هذه الأيام وما سبقها، يعتقد أن هذا الشعب لم يشاهد مظاهر عنف على الإطلاق، ومن يراجع مشاهد العنف المختلفة في العراق خلال عقد كامل من الزمن، لا يمكن أن يتخيل أن الشعب العراقي يمكن أن يركن إلى الطرق السلمية، ويخرج بمظاهرات مليونية مطالبا بحقوقه ورافضا للظلم والجور والانتهاكات التي يتعرض لها الناس من قبل حكومة المالكي وأجهزته الأمنية طيلة سنوات.
في العراق، مظاهرات واحتجاجات وعصيان مدني، في مدن ديالى وبغداد وكركوك وسامراء والبيجي والفلوجة مظاهرات احتجاجية، وفي مدينة الرمادي اعتصامات متواصلة، حيث تصطف أكثر من سبعين خيمة على جانبي ميدان الاعتصام، وفي مدينة الموصل تجد المظاهرات المتواصلة كما مارسوا العصيان المدني ايضا، فقد أغلقوا المحال التجارية وأقفرت الاسواق احتجاجا على سياسات رئيس الحكومة نوري المالكي.
جميع مظاهر الاحتجاجات مؤثرة وقد تكون مرعبة للحاكم، خاصة الذي يعرف أنه انتهك الحريات ووقع في ظل حكمه آلاف الضحايا وسرق ثروات البلد وهجر ناسه وامتلأت السجون في زمن تسلطه، لكن يبقى للعصيان المدني أثره الأكبر، رغم حيوية وفاعلية وسائل الاحتجاج الأخرى.
في كتاب (حرب اللا عنف)، جاءت إشارة لأول ذكر للعصيان المدني، عندما أشار إلى فكرتها الكاتب الأميركي هنري ديفيد ثور أو في مقاله الشهير "العصيان المدني" المنشور في سنة 1849 م، وكتب مقاله بعد امتناعه عن دفع ضرائب الحرب احتجاجا على العبودية والقمع والاضطهاد والحرب التي كانت تخوضها الولايات المتحدة ضد المكسيك، وفي العام السابق لاستخدام هنري ديفيد لمصطلح "العصيان المدني" لجأ كارل ماركس إلى هذه الفكرة حين حاول أن ينظم حملة لإقناع الأوروبيين بعدم دفع الضرائب خلال الثورة التي اجتاحت أوروبا خلال عام 1848م.
أما ممارسة العصيان المدني، فإنه يعود إلى فترات بعيدة ومن أهم ما يذكره التاريخ في هذا الميدان، يعود إلى العصر الروماني، ففي عام 494 قبل الميلاد، ثار الناس في الدولة الرومانية القديمة على ظلم القناصلة الذين كانوا يحكمونها، وانسحبوا إلى تل سُمي بعد ذلك "بالجبل المقدس"، وظلوا هناك لعدة أيام حتى تم إصلاح الأوضاع وتحقيق مطالبهم فعادوا إلى المدينة.
لن يقدم الناس على الاحتجاج والتظاهر والعصيان المدني إلا بعد أن يتراكم الظلم على الناس وتتكدس المآسي ويخرب الحاكم كل شيء، ولم يكن امام الناس غير هذا المنفذ للحصول على حقوقهم المشروعة ووضع حد للإجرام والطغيان، وعندما يقرر الناس السير في مثل هذا الطريق، فإنهم مستعدون لفعل كل شيء لإنقاذ الناس من جحيم السلطة.
المشكلة أن الناس يدركون أن ردهم على الظلم أمر حتمي، لكن بعض الحكام لا يعترفون بقانون الطبيعة الرافضة للظلم والطغيان، فيسقطون في وهم القوة، معتقدين أن الظلم وتكميم الأفواه يُبقي على الظالم ولا يسمح بانطلاق المظلوم من غرف الظلام الدامس نحو فضاء الحرية، والتاريخ يزخر بالأمثلة.
< السابق | التالي > |
---|