“الإسرائيليون” منزعجون من إعادة انتخاب باراك أوباما رئيساً للولايات المتحدة لولاية ثانية، وهم لا يخفون انزعاجهم، خاصة يمينهم الصهيوني المتطرف: الحاكم في الدولة الاستيطانية. وليس يعني ذلك - حُكماً- أن العرب مرتاحون لنتائج انتخابات الرئاسة الأمريكية، فهم موزعون بين قسم خُذِل في وعوده التي أطلقها في خطاب جامعة القاهرة الشهير،
وكان يعوّل عليها - أي ذلك القسم من العرب- كبير تعويل لإنصافنا في حقوقنا المهتضمة، وبين قسم آخذه على ضعفه الشديد تجاه “إسرائيل” وصفاقة نتنياهو، وعلى سرعة تخليه عن موقفه من رفض الاستيطان، ومن وجوب تعليقه توفيراً لشروط التفاوض، وبين قسم ثالث آخذه على تردده وعدم حسمه تجاه الأزمة السورية، وقسم رابع رأى فيه “نصيراً” للديمقراطية وﻟ“الثورات العربية”، ثم قسم خامس حمله مسؤولية تنفيذ سياسة “الفوضى الخلاقة” في البلاد العربية، والتحالف مع قوى ونخب سياسية “جديدة” لا تقترح على المجتمعات العربية غير العودة إلى الوراء.. إلخ.
باراك أوباما، إذاً، مسألة خلافية حادة في الوطن العربي أكثر مما هي عليه هذه المسألة داخل بلده: الولايات المتحدة، فكل ذي طِلْبَةٍ من العرب يتصور أن جوابها عند أوباما:
الذين استبشروا خيراً بكلامه في مدرّج جامعة القاهرة، خالوا -للحظة - أن الرجل يحمل في جَعبته مشروعاً سياسياً لمنطقتنا يجُب سياسات أمريكا السابقة تجاهها، ويطوي صفحات سوداً من سيرتها مع العرب والمسلمين! ولعل لون بشرته، وأصوله المسلمة والإفريقية، وبلاغته اللغوية الإنجليزية الموحية بالصدق والحزم.. غذت هذا الاطمئنان الخامل إلى وعوده، وحجبت رؤية الحقيقة الأرسخ: إن أوباما مجرد موظف سام في دولة عظمى ذات مصالح حيوية، واستراتيجات كونية، لا تغيرها إرادة أفراد هم في أفضل الأحوال قطع غيار في آلة الدولة.
والذين تفاءلوا بمطلبه الحازم تعليق الاستيطان الصهيوني، لفترة تسعة أشهر، واصصدامه في ذلك مع نتنياهو، وعدّوا موقفه ذاك بروفة من بروفات ضغط سيتحول عنده إلى سياسة رسمية ضد الدولة العبرية، ومقدمة نحو إنصاف شعب فلسطين في بعض حقوقه الوطنية في أرضه..، فاتهم أن علاقات أمريكا بالدولة الصهيونية أشبه ما تكون بالعلاقات المقدسة التي يأثم من ينتهكها، وأن أمنها جزء أصيل من الأمن القومي الأمريكي، وأن الصهيونية تحتل مراكز القرار في الكونغرس والبيت الأبيض ومراكز الدراسات والصحافة والإعلام، وأن رئيساً أمريكياً - مهما علا شأنه- لا يملك أن يغيّر من ثوابت تلك العلاقة مقدار بوصة.
والذين انتظروا منه أن يحرك جيشه وحاملات طائراته وقواعده العسكرية في المنطقة لضرب سوريا، والنيابة عن معارضتها في إسقاط نظامها، بعد الردع الروسي- الصيني في مجلس الأمن، ينسون أن جيش أمريكا ليس جيش مرتزقة يؤجّر نفسه لأغراض الآخرين، إن لم تكن لديه مصالح خاصة معلومة، وأن ورطة أمريكا في العراق وأفغانستان تكفيها للاتعاظ بدروس التدخل العسكري، وأن اقتصاد أمريكا المنهار يدفع، اليوم، ثمن مغامرات عسكرية سابقة، ولا يطلب لنفسه مزيدَ مغامرات. وما كان كلام أوباما، في خطاب الفوز، ليخفي فداحة تلك الأكلاف المدفوعة حين قال إن حروب أمريكا أصبحت خلفها.
والذين اتهموه بأنه طبق سياسة الفوضى “الخلاقة” في بلادنا العربية، لتفكيك كياناتها، وتمزيق نسيجها الداخلي، لم يتجرأوا على الاعتراف أن هذه السياسة لا تقبل النجاح إلا متى كانت لها حوامل سياسية وأهلية من داخل المنطقة العربية نفسها، وأن تلك الحوامل هي، بالذات، ما وفّر للفوضى “الخلاقة” إمكان التغلغل في بُنى المجتمع والدولة.
لكل - إذاً- طلْبتُه، والجميع ينتظر من آخر أجنبي أن يجيبها. ويمكن لهذا الآخر أن يكون أي سياسي في العالم يحكم بلداً كبيراً كالولايات المتحدة، ولكنه يحظى بالثقة عند المراهنين عليه، مثلما كان بيل كلينتون أو مثلما هو أوباما في عيون كثيرين. أما حين يعجز عن إجابتها، على النحو الذي يبغيه طالبها، يبدأ التعبير عن البرم والنقد والحسرة في انتظار “بطل” خارجي جديد “منقذ”! ليس مهماً، عند الطالبين، إن كانت طَلَباتهم قابلة للتحقيق، إن كان رئيس أمريكا مستعداً لخيانة مصالح دولته أو تغيير استراتيجياتها العليا، لإشباع حاجات غيره، المهم أن يفعل أو أن يصير موضوع نقد ونقمة.
ليست المشكلة أوباما - المنسجم مع مصالح وطنه العليا- وإنما هي مشكلة من يعجزون عن صنع مصيرهم بأنفسهم، فيعلقونه على دور مستعار، أجنبي، يقوم مقام أدوارهم المفترضة، ويستمرئون عاداتهم البليدة التي ما برحوها منذ عقود: قراءة طالعهم في فنجان رئيس أمريكا.
< السابق | التالي > |
---|