إذا كان المكسيكي كارلوس فوينتس في روايته «أورا» التي تحدثنا عنها قبل يومين، أخذنا إلى مدار تأمل فلسفي حول علاقتنا بالزمن، وما يتركه على أجسادنا وأرواحنا من تحولات ، ونحن نتنقل بين مراحل العمر المختلفة، حين نصبح في شيخوختنا مثقلين بمخزون من الذكريات لا نعلم أهو عبء علينا أم رصيد من الخبرات نعتز بها، فإن الروائية الهندية أنيتا ديساي في روايتها القصيرة: «متحف الرحلات الأخيرة» تفعل شيئاً مشابهاً لكن بمقاربة مختلفة.
والكاتبة التي نالت جوائز أدبية مرموقة، لها رصيد روائي وقصصي ثري، وهي إلى ذلك أكاديمية متميزة حيث تعمل كبروفسور في قسم الدراسات الإنسانية بمعهد ماساشوسويتس للتكنولوجيا، ومعروفة بإتقانها لعدة لغات، كالإنجليزية والألمانية والبنغالية إضافة إلى لغات وطنها الهند.
محور «متحف الرحلات الأخيرة» موظف إداري شاب يُعين في بداية حياته الوظيفية في منطقة نائية ومعزولة في الهند، خالية من أي خدمات، فينتابه شعور بالإحباط وخيبة الأمل، هو الذي ألف العيش في المدينة وفي بيئة عائلية مرفهة إلى حد ما، ويزيد من شعوره بالإحباط فشله في حل المشاكل التي تواجه الناس في تلك المنطقة، لا لعجز في قدراته، وإنما لأن تلك المشاكل بطبيعتها معقدة ومتشابكة الأطراف.
ذات يوم يأتيه إلى حيث يقيم رجل عجوز يطلب منه، بصفته الإدارية، التدخل لدى الحكومة لإنقاذ مقتنيات متحف يشرف عليه لأنه غير قادر، مالياً، على إدارته وحفظ ما فيه. وتحتل حكاية المتحف الجزء الأكبر من الرواية، حيث يقوم الموظف الشاب تحت إلحاح العجوز بزيارة المتحف، فهاله ما رأى فيه من مقتنيات: سجاجيد نفيسة، مجسمات لحيوانات وطيور محنطة، منمنمات من تركيا وبلاد فارس والهند المغولية، تماثيل متناهية الصغر تعتلي صهوات أحصنة رشيقة تطارد الأسود والغزلان، مراوح يدوية، وكان من السهل تصور الأصابع الجميلة مستدقة الأطراف التي طوّقت هذه المراوح المصنوعة من العاج المزخرف والحرير المطوي الذي نسجت عليه مناظر طبيعية مؤلفة من حدائق واحتفالات.
ثمة أشياء أخرى أيضاً: صناديق تحتوي على كل أنواع مواد الكتابة بأحبار تحولت إلى مسحوق في قعر العلب الزجاجية، أقلام وريش لن يستخدمها أحد مرة أخرى، وأختام لم تعد صالحة لأن يدمغ بها، ساعات رملية التي لم يعد الرمل يتسرب منها، وساعات مائية تبخر منها الماء منذ أمد طويل.
في نهاية الرواية تصدمنا الكاتبة بقول الموظف الشاب، وقد بات كهلاً، بأنه غير متأكد من أن المتحف الذي شاهده والحكايات التي سمعها من العجوز حوله كانت حقيقة أم أن ذلك محض سراب تراءى له أو مجرد كتاب قرأه ذات مرة ولم يعد يتذكره إلاّ بصورة مبهمة.
أيكون المتحف، شأن كل المتاحف، حيلة الإنسان مع الزمن، أتكون وهماً صنعناه بأنفسنا لوضع الزمن في خانات، نسميها عصوراً وأقساماً، كما صنعنا الساعة كي نقيس ما لا يمكن قياسه لأنه مطلق وأبدي؟
madanbahrain@gmail.com
< السابق | التالي > |
---|