عندما أزاحت الحداثة الإله من الوجود واستبعدته كمرجعية للذات ، وجعلت العقل والإنسان وحده هو المرجع والمركز في هذا الكون ابتداء من منهج ديكارت في الشك منذ القرن السابع عشر واتخاذه من مقولته " أنا أفكر أنا موجود " ، نبراساً يهتدى به ، وأصبح الانسان منذ ذلك الوقت هو سيد هذه الطبيعة بلا منازع ، وهو الذي يسنّ الأنظمة والقوانين ، وهو الذي يخطط ويضع الأهداف والغايات لمجتمعه في كلّ مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، وذلك باعتقادها أي الحداثة أن العقل وليس غيره هو الذي سيوصلها إلى الجنة الأرضية وسيوصلها إلى السعادة المنشودة ، اكتشفت في نقد الحداثة أو بما يسمى بما بعد الحداثة ابتداء من نيتشه ثم مدرسة فرانكفورت أو ما يعرف بالنظرية النقدية وغيرها من الفلسفات ما بعد الحداثية أن العقل غير أمين في قيادته للبشر في هذا الوجود ، وأنه مرجع لا يعوّل عليه ، وذلك بسبب الكوارث والمآسي التي خلّفها وراءه في المجتمعات والدول ، ناهيك عن محدوديته وقصر نظره في معالجة المشاكل الكثيرة التي واجهت الانسان المعاصر ، والتي باتت تقض مضجعه ، وتفاقمها ، بالإضافة إلى زيادة الفجوة بين مجتمعات الحداثة الغربية ومجتمعات العالم الثالث .
من الأمثلة على عدم استطاعة الحداثة إيجاد حلول للمشاكل التي وعدت بحلّها أو ظهور وتفاقم مشاكل جديدة لم تكن قائمة قبلها الآتي::-
١-عدم وضوح الغاية من الوجود في مجتمعات الحداثة لتكون هي المرجع النهائي لإتخاذه كمنهج أو طريق للسير به في هذه الحياة، أي غياب المعنى من الوجود.
٢- لم يتفق مفكرو ومنظرو الحداثة على وجود قيم موّحدة يتفق عليها الجميع لكي يرجع إليها المختلفون فيما بينهم في الحالات العادية أو غير العادية أي في حالة نشوب خلاف بين الدول إو المجتمعات المختلفة في العالم .
٣- ازدياد الفقر في العالم والفجوة بين الأغنياء والفقراء سواء في دول الحداثة نفسها أو في دول العالم الثالث .
٤- جاءت مع الحداثة الدول الاستعمارية التي استولت على دول العالم الثالث ونهبت أموال شعوبها ومقدراتها الاقتصادية ودمرت البنية التحتية لهذه الدول ، ناهيك عن تدمير البنية الثقافية لها .
٥- من أهم أسس الحداثة التي قامت عليها ما يسمى بالليبرالية والتي ترتكز على الفكر الرأسمالي وهو الفكر القائم على إزاحة كل ما يقف في طريقه لزيادة رأس المال حتى لو كان على حساب تدمير وقهر الشعوب سوآءا في داخل دول الحداثة نفسها أو خارجها .
٦- عدم وجود إطار ومرجع أخلاقي لتطور العلم والتقنية حتى لو كان هذا التقدم على حساب الطبيعة والبيئة والأرض التي نعيش عليها وعلى حساب الشعوب ، وهذا ما نلاحظه مثلاً في إزديادة فجوة طبقة فتحة الأوزون والتي ربما تؤدي إلى كارثة بشرية في حالة عدم معالجتها ، أو مثلاً تطوير الأسلحة الفتاكة والمدمرة للبشرية دون أي رادع .
٧- إنحراف الحداثة عن مبادئ عصر التنوير والقواعد التي نادى بها وهي تحقيق العدالة والمساواة والحرية الفردية وتبنّي منهج حقوق الإنسان والتسامح بين البشر وغيرها من القيم التي نادى بها روادها مثل جان جاك روسو وفولتير وكانط وديدرو ومنتسكيو وغيرهم .
٨- عدم تحقيق الحداثة ما وعدت به وهو الإنتماء إلى الجنس البشري أي الإنسانية جمعاء بما هي صفة كونية أكثر أصالة من الإنتماء إلى هذا المجتمع أو ذاك ، لذلك هي تعمل على مصالحها ومصالح شعوبها حتى لو كان على حساب مصالح الشعوب الأخرى ، وهذا ما يكرّس نزعة العنصرية والتعصب لديها .
٩- الديمقراطية التي نادت بها ودافعت عنها اتضح انها ديمقراطية خاصة بطبقة معينة وهي الطبقة الرأسمالية أو ما يعرف بالطبقة البرجوازية . يقول الأديب سولجينتسين في تشبيهه للديمقراطية الغربية وإنها لا تختلف عن الدول الاستبدادية الشمولية فكلاهما من نموذج واحد ، يقول " في البلاد الشرقية يدوس معرض الحزب برجليه حميميّة حياتنا الخاصة وفي الغرب يؤدي المعرض التجاري الدور نفسه ".
لجميع هذه الأسباب أعلاه وغيرها تعيش دول وشعوب الحداثة بل دول وشعوب العالم أجمع باعتبار هيمنة دول الحداثة على بقية أجزاء العالم، تعيش مأزق كبير ومشاكل طاحنة لا بد من إيجاد الحلول الناجحة لتدارك تفاقم مشكلاتها وتخفيف أعباء منجزاتها السلبية المدمرة ، وإعادة النظر في بعض مفاهيمها وأفكارها ، ونقدها وتصحيح مسارها ليس بهدف التخلي عن بعض منجزاتها الإيجابية التي أرتقت البشرية بسببها مثل الدعوة إلى العقل والحرية الفردية وحقوق الإنسان وغيرها وإنما لكي تقوم بتعديل مسارها إلى المنهج الصحيح ، والتي لن تقوم للمجتمعات البشرية لها قائمة إلا بمعالجتها بكل صدق وأمانة ، وهذا لن يتأتى إلا بتكاتف الجهود بين دول العالم المتقدم وغيرها من الدول لكي يعيش الإنسان على هذا الكوكب في إنسجام مع ذاته ومع الآخرين .
< السابق | التالي > |
---|